فصل: تفسير الآيات (256- 257):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (256- 257):

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
قد اختلف أهل العلم في قوله: {لا إِكْرَاهَ في الدين} على أقوال: الأوّل أنها منسوخة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: {ا ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: 73، التحريم: 9] وقال تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [التوبة: 123] وقال: {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني: أنها ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية، بل الذين يُكْرَهون هم أهل الأوثان، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، أو السيف، وإلى هذا ذهب الشعبي، والحسن، وقتادة، والضحاك. القول الثالث أن هذه الآية في الأنصار خاصة، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع: أن معناها: لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف إنه مكره، فلا إكراه في الدين. القول الخامس: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام.
وقال ابن كثير في تفسيره: أي: لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح جليُّ دلائله، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونوّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه، وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً، وهذا يصلح أن يكون قولاً سادساً.
وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية: أي: لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار، والقسر، ولكن على التمكين، والاختيار، ونحوه قوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن في الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكن لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار، وهذا يصلح أن يكون قولاً سابعاً.
والذي ينبغي اعتماده، ويتعين الوقوف عنده: أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة، وهو أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت يهود بني نضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فنزلت، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي في السنن، والضياء في المختارة عن ابن عباس.
وقد وردت هذه القصة من وجوه، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار: قالوا إنما جعلناهم على دينهم أي: دين اليهود، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا، وأن الله جاء بالإسلام، فلنكرههم؛ فلما نزلت خيرّ الأبناءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكرههم على الإسلام، وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم، وأدّوا الجزية.
وأما أهل الحرب، فالآية وإن كانت تعمهم؛ لأن النكرة في سياق النفي، وتعريف الدين يفيدان ذلك، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام.
قوله: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} الرشد هنا: الإيمان، والغيّ: الكفر أي: قد تميز أحدهما من الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت: فعلوت من طغى يطغي، ويطغو: إذا جاوز الحدّ. قال سيبويه: هو اسم مذكر مفرد أي: اسم جنس يشمل القليل، والكثير، وقال أبو علي الفارسي: إنه مصدر كرهبوت، وجبروت يوصف به الواحد، والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه إلى موضع اللام كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفاً لتحركها، وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت، واختار هذا القول النحاس، وقيل: أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلئ من اللؤلؤ.
وقال المبرد: هو جمع. قال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت: الكاهن، والشيطان، وكل رأس في الضلال، وقد يكون واحداً. قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60] وقد يكون جمعاً. قال الله تعالى: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} والجمع الطواغيت أي: فمن يكفر بالشيطان، أو الأصنام، أو أهل الكهانة، ورءوس الضلالة، أو بالجميع {وَيُؤْمِن بالله} عزّ وجلّ بعد ما تميز له الرشد من الغيّ، فقد فاز، وتمسك بالحبل الوثيق أي: المحكم. والوثقى: فعلى من الوثاقة، وجمعها وُثَق مثل الفضلى، والفُضَل.
وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه، والتمثيل لما هو معلوم بالدليل بما هو مدرك بالحاسة، فقيل: المراد بالعروة الإيمان. وقيل: الإسلام. وقيل: لا إله إلا الله، ولا مانع من الحمل على الجميع. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري: فصم الشيء: كسره من غير أن يبين. وأما القصم بالقاف، فهو الكسر مع البينونة، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع.
قوله: {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ} الوليّ: فعيل بمعنى فاعل، وهو الناصر. وقوله: {يُخْرِجُهُم} تفسير للولاية، أو حال من الضمير في وليّ، وهذا يدل على أن المراد بقوله: {الذين كَفَرُواْ} الذين أرادوا الإيمان؛ لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج إخراجهم من الشبه التي تعرض للإيمان، فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة، والمراد بالنور في قوله: {يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات} ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر، أي: قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء.
وقيل: المراد: بالذين كفروا هنا: الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين، ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج.
وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن سعيد بن جبير نحو ما تقدّم، عن ابن عباس من ذكر سبب نزول قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ في الدين} وزاد: أن النبي صلى الله عليه وسلم خيَّر الأبناء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن الشعبي نحوه أيضاً، وقال: فلحق بهم أي: ببني النضير من لم يسلم، وبقي من أسلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة، فثبتوا على دينهم، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت.
وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {لا إِكْرَاهَ في الدين} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت.
وأخرج عبد بن حميد، عن عبد الله بن عبيدة نحوه. وكذلك أخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، عن السديّ نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير عن قتادة قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا تكرهوا اليهود، ولا النصارى، والمجوس إذا أعطوا الجزية.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن نحوه.
وأخرج البخاري عن أسلم: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي تسلمي، فأبت، فقال: اللهم اشهد، ثم تلا: {لا إِكْرَاهَ في الدين} وروى عنه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أنه قال لزنبق الرومي غلامه: لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فأبى، فقال: {لا إِكْرَاهَ في الدين}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سليمان بن موسى في قوله: {لا إِكْرَاهَ في الدين} قال: نسختها {جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: 73].
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال: الطاغوت: الشيطان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الطاغوت الكاهن، وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال: الطاغوت: الساحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال: الطاغوت ما يعبد من دون الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: العروة الوثقى لا إله إلا الله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك: أنها القرآن.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد: أنها الإيمان، وعن سفيان: أنها كلمة الإخلاص.
وقد ثبت في الصحيحين تفسير العروة الوثقى في غير هذه الآية بالإسلام مرفوعاً في تعبيره صلى الله عليه وسلم لرؤيا عبد الله بن سلام.
وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فإنهما حبل الله الممدود، فمن تمسك بهما، فقد تمسك بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها».
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس قال: إذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاذ أنه سئل عن قوله: {لاَ انفصام لَهَا} قال: لا انقطاع لها دون دخول الجنة.
وأخرج ابن المنذر، والطبراني عن ابن عباس في قوله: {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ} الآية، قال: هم قوم كانوا كفروا بعيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} الآية، قال: هم قوم آمنوا بعيسى، فلما بعث محمد كفروا به.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: الظلمات الكفر. والنور: الإيمان.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله.

.تفسير الآية رقم (258):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره، من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي، والتقرير المنفي، أي: ألم ينته علمك، أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة؟ قال الفراء: {ألم تر} بمعنى هل رأيت: أي: هل رأيت الذي حاجّ إبراهيم، وهو النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم بن نوح، وقيل: إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وقوله: {أَنْ آتاه الله الملك} أي: لأن آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله، على معنى: أن إيتاء الملك أبطره، وأورثه الكبر، والعتو، فحاج لذلك، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر، كما يقال: عاديتني؛ لأني أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه الله الملك. وقوله: {إِذْ قَالَ إبراهيم} هو ظرف لحاج. وقيل: بدل من قوله: {أَنْ آتاه الله الملك} على الوجه الأخير، وهو بعيد. قوله: {رَبّى * الذي يُحْيىِ وَيُمِيتُ} بفتح ياء ربي، وقرئ بحذفها. وقوله: {أَنَاْ أحيى} قرأ جمهور القراء {أنا أحيى} بطرح الألف التي بعد النون من أنا في الوصل، وأثبتها نافع، وابن أبي أويس، كما في قول الشاعر:
أنَا شَيْخُ العَشيرة فَاعْرِفُوني ** حُمْيداً قد تَذَرَّبْتُ السَّنامَا

أراد إبراهيم عليه السلام: أن الله هو: الذي يخلق الحياة، والموت في الأجساد، وأراد الكافر: أنه يقدر أن يعفو عن القتل، فيكون ذلك إحياء، وعلى أن يقتل، فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جواباً أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم؛ لأنه أراد غير ما أراده الكفار، فلو قال له: ربه الذي يخلق الحياة، والموت في الأجساد، فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر باديء بدء، وفي أوّل، وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيساً لخناقه، وإرسالاً لعنان المناظرة فقال: {إبراهيم فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة، ومشاغبة.
قوله: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} بُهِتَ الرجل، وبَهُتَ، وبَهِتَ: إذا انقطع، وسكت متحيراً. قال ابن جرير: وحكى عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء، والهاء. قال ابن جني: قرأ أبو حيوة، {فَبَهُتَ} بفتح الباء، وضم الهاء، وهي لغة في بهت بكسر الهاء؛ قال: وقرأ ابن السميفع، {فبهت} بفتح الباء، والهاء على معنى، فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب، قال: وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت.
وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة: {فبهت} بكسر الهاء، قال: والأكثر بالفتح في الهاء.
قال ابن عطية: وقد تأوّل قومٌ في قراءة من قرأ: {فبهت} بفتحهما أنه بمعنى سبَّ، وقذف، وأن النمروذ، هو الذي سبّ حين انقطع، ولم يكن له حيلة. انتهى.
وقال سبحانه: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} ولم يقل، فبهت الذي حاجّ، إشعاراً بأن تلك المحاجة كفر. وقوله: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن علي بن أبي طالب أن الذي حاجّ إبراهيم في ربه هو: نمروذ بن كنعان.
وأخرجه ابن جرير، عن مجاهد، وقتادة، والربيع، والسديّ.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم: أن أول جبار كان في الأرض نمروذ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار، فإذا مرَّ به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت، حتى مرّ به إبراهيم، فقال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت، قال: أن أحيي وأميت، قال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر، فردّه بغير طعام. فرجع إبراهيم إلى أهله، فمرّ على كثيب من رمل أصفر فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى أهله، فوضع متاعه، ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ، فصنعت له منه، فقرّبته إليه، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أن الله رزقه، فحمد الله، ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً أن آمن وأتركك على ملكك. قال: فهل ربّ غيري؟ فجاءه الثانية، فقال له ذلك فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام، فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملَك، ففتح عليه باباً من البعوض، وطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم، فأكلت شحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء، فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه، ثم ضرب بهما رأسه، وكان جباراً أربعمائة سنة، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله، وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السماء، {فأتى الله بنيانه من القواعد} [النحل: 26].
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في الآية، قال: هو نمروذ بن كنعان، يزعمون أنه أوّل من ملك في الأرض أتى برجلين قتل أحدهما، وترك الآخر، فقال: {أنا أحيي وأميت}.
وأخرج أبو الشيخ، عن السدي: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} قال: إلى الإيمان.